لا بدّ مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ، مع رعایة الاختصار ، لیکون القارئ على بصیرة أکثر من الأمر :
مات معاویة بن أبی سفیان فی النصف من شهر رجب ، سنة 60 من الهجرة ، وجلس ابنه یزید على منصّة الحکم ، وکتب إلى الولاة فی البلاد الاسلامیة یُخبرهم بموت معاویة ، ویطلب منهم أخذ البیعة له من الناس .
وکتب إلى والی المدینة کتاباً یأمره بأخذ البیعة له من أهل المدینة بصورة عامّة ، ومن الإمام الحسین (علیه السلام) بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن البیعة یلزم قتله ، وعلى الوالی تنفیذ الحُکم ، واستطاع الإمام الحسین أن یتخلّص مِن شرّ تلک البیعة .
وخرج إلى مکة فی أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر فی المدینة المنوّرة أنّ الإمام امتنع عن البیعة لیزید ، وانتشر الخبر ـ أیضاً ـ فی مکة ، ووصل الخبر إلى الکوفة والبصرة .
وکانت رحلة الإمام الحسین إلى مکة بدایة نهضته (علیه السلام) ، وإعلاناً واعلاماً صریحاً بعدم اعترافه بشرعیّة خلافة یزید ، واغتصاب ذلک المنصب الخطیر .
وهکذا استنکف المسلمون أن یدخلوا تحت قیادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر بالمنکرات . فجعل أهل العراق یکاتبون الإمام الحسین (علیه السلام) ویطلبون منه التوجّه إلى العراق لیُنقذهم من ذلک النظام الفاسد ، الذی غیّر سیماء الخلافة الإسلامیة بأبشع صورة وأقبح کیفیّة !
کانت الرسل والمراسلات متواصلة بین الکوفة ومکة ، ویزداد الناس إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسین أن یُلبّی طلبهم ، لأنه الخلیفة الشرعی لرسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) المنصوص علیه بالخلافة من جدّه الرسول الکریم.
فأرسل الإمام الحسین (علیه السلام) إبنَ عمّه مسلم بن عقیل إلى الکوفة ، والتفّ الناس حول مسلم ، وبایعوه لأنّه سفیر الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذین بایعوه ثمانیة عشر ألفاً ، وقیل : أکثر مِن ذلک . فکتب مسلم إلى الإمام یُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحیب به ونصرته ـ کما فهمه مسلم مِن ظواهر الأمور ـ .
وقرّر الإمام أن یخرج من مکة نحو العراق مع عائلته المصونة وإخوته وأخواته ، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغیرهم ، وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ یزید قد بعث عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثین رجل ، وأمرهم بقتل الإمام الحسین (علیه السلام) فی مکّة ، أینما وجدوه .. حتى لو کان مُتعلّقاً بأستار الکعبة !
مجیء ابن زیاد الى الکوفة :
وجاء عبید الله بن زیاد ابن أبیه من البصرة الى الکوفة والیاً علیها من قِبل یزید بن معاویة ، وجعل یهدّد الناس بجیش موهوم ، قادم من الشام .
واجتمع حوله الذین کانوا لا یتعاطفون مع الإمام الحسین ، وجعل ابن زیاد یُفرّق الناس عن مسلم بالتهدید والتطمیع ، فانفرج الناس عن مسلم ، وتفرّقوا عنه .
وفی الیوم الذی خرج الإمام الحسین (علیه السلام) من مکة نحو العراق کانت الأمور منقلبة ضدّ مسلم فی الکوفة ، وأخیراً أُلقی علیه القبض وقُتل (رضوان الله علیه( ، وفی أثناء الطریق بلغ خبر شهادة مسلم إلى الإمام الحسین ، فکانت صدمة على قلبه الشریف .
ولا نعلم ـ بالضبط ـ هل رافقت السیدة زینب الکبرى عائلة أخیها من المدینة ؟ أم أنّها التَحقت به بعد ذلک ؟ وخَفیت علینا کیفیّة خروجها من المدینة المنوّرة إلى مکّة ، ولکنّنا نعلم أنّها کانت مع عائلة أخیها حین الخروج من مکّة ، وفی اثناء الطریق نحو الکوفة ، وعاشت أحداث الطریق من لقاء الحرّ بن یزید الریاحی بالإمام ، ومُحاولته إلقاء القبض على الإمام فی أثناء الطریق وتسلیمه إلى عبید الله بن زیاد .
وإلى أن وصلوا إلى کربلاء فی الیوم الثانی من المحرّم ، ونزل الإمام ومَن معه ، ونَصَبوا الخیام ینتظرون المُقدّرات والحوادث .
الإمام الحسین یَصطحب العائلة
لقد عرفنا أن الإمام الحسین (علیه السلام) کان یعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه سیفوز بالشهادة فی أرض کربلاء ، وکان یعلم تفاصیل تلک الفاجعة وأبعادها .
ولعلّ بعض السُذّج من الناس کان یعتبر اصطحاب الإمام الحسین عائلته المکرّمة إلى کربلاء منافیاً للحکمة ، لأن معنى ذلک تعریض العائلة للإهانة والمکاره ، وأنواع الاستخفاف .
وما کان أولئک الناس یعلمون بأنّ اصطحاب الإمام الحسین (علیه السلام) عائلته المَصونة ـ وعلى رأسهن السیدة زینب ـ کان من أوجب لوازم نجاح نهضته المبارکة. إذ لولا وجود العائلة فی کربلاء لکانت نهضة الإمام ناقصة ، غیر متکاملة الأجزاء والأطراف ؛ فإنّ أجهزة الدعایة الأمویة ما کانت تتحاشى ـ بعد إرتکاب جریمة قتل الإمام الحسین ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنکر مقتل الإمام نهائیاً ، وتنشر فی الأوساط الإسلامیة انّ الإمام توفّی على أثر السکتة القلبیّة ، مثلاً !!، ولیس فی هذا الکلام شیء من المبالغة ، ففی هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت فی بعض البلاد العربیة مجموعة من الکتب الضالّة التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرین ، من بهائم الهند ، وکلاب باکستان ، وخنازیر نَجد . ومن جملة تلک الأباطیل التی سوّدوا بها تلک الصفحات ، هی إنکار شهادة الإمام الحسین ، وأن تلک الواقعة لا أصل لها أبداً .
فهذه الفاجعة قد مرّت علیها حوالی أربعة عشر قرناً ، وقد ذکرها الألوف من المؤرخین والمحدّثین ، واطّلع علیها القریب والبعید ، والعالم والجاهل ، بل وغیر المسلمین ایضاً لم یتجاهلوا هذه الفاجعة المروّعة .
وتُقام مجالس العزاء فی ذکرى إستشهاد الإمام الحسین (علیه السلام) فی عشرات الآلاف من البلاد ، فی جمیع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من الشمس ، وصارت کالقضایا البدیهیّة التی لا یمکن إنکارها أو التشکیک فیها ، بسبب شُهرتها فی العالم .
وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ، وضربوا الرقم القیاسی فی صلافة الوجه وانعدام الحیاء ، یأتون وینکرون هذه الواقعة کلّیاً . ولقد رأیتُ بعض مَن یدور فی فلک الطواغیت ، ویجلس على موائدهم ، ویملأ بطنه من خبائثهم ، أنکر واقعة الجمل وحرب البصرة نهائیّاً ، تحفّظاً على کرامة إمراءة خرجت تقود جیشاً لمحاربة إمام زمانها ، وأقامت تلک المجزرة الرهیبة فی البصرة ، التی کانت ضحیّتها خمسة وعشرین ألف قتیل . هذه محاولات جهنّمیة ، شیطانیة ، یقوم بها هؤلاء الشواذ ، وهم یظنّون أنّهم یستطیعون تغطیة الشمس کی لا یراها أحد ، ویریدون أن یطفؤا نور الله بأفواههم ، ویأبى الله إلا أن یُتمّ نوره . وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على شیء فإنّما تدل على هویّة هؤلاء الکُتّاب وماهیّتهم ، وحتى یَعرف العالَم کله أن هؤلاء فاقدون للشرف والضمیر ـ بجمیع معنى الکلمة ـ ولا یعتقدون بدینٍ من الأدیان ، ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التی هی الکل فی الکلّ عندهم !!
إنّ تواجد العائلة فی کربلاء ، وفی حوادث عاشوراء بالذات لم یُبقِ مجالاً للأمویین ولا لغیرهم ـ فی تلک العصور ـ لإنکار شهادة الإمام الحسین . إنّ الأمویین الأغبیاء ، لو کانوا یَفهمون لاکتَفوا بقتل الإمام الحسین فقط ، ولم یُضیفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى ، مِثل سَبی عائلة الإمام الحسین (علیه السلام) ، ومُخدّرات الرسالة ، وعقائل النبوة والوحی ، وبنات سید الأنبیاء والمرسلین . ولکنّهم لکی یُعلنوا إنتصاراتهم فی قتل آل رسول الله (علیهم السلام) أخذوا العائلة المکرّمة سبایا من بلد إلى بلد . وکانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا وتوجد فی أهل ذلک البلاد الوعی والیقظة ، وتکشف الغطاء عن جرائم یزید ، وتُزیّف دعاوى الأمویّین حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموی.
ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : کان وجود العائلة ـ فی هذه الرحلة ، والنهضة المبارکة ـ ضروریاً جداً جداً ، وکان جزءاً مُکمّلاً لهذه النهضة ؛ فإنّ هذه الأسرة الشریفة کانت على جانب عظیم من الحِکمة والیقظة ، والمعرفة وفهم الظروف ، واتّخاذ التدابیر اللازمة کما تقتضیه الحال .
الإمام الحسین فی طریق الکوفة
رویَ أن الإمام الحسین (علیه السلام) لمّا نزل الخزیمیة قام بها یوماً ولیلة ، فلمّا أصبح أقبلت إلیه أخته زینب (علیها السلام) فقالت :
یا أخی ! ألا أُخبرک بشیء سمعته البارحة ؟
فقال الحسین (علیه السلام) : وما ذاک ؟
فقالت : خَرجتُ فی بعض اللیل فسمعت هاتفاً یهتف ویقول :
ألا یـا عیـنُ فاحتفلی بجهد علـى قـومٍ تسـوقهم المنایا ومَن یبکی على الشهداء بعدی بمقـدار إلـى إنجـاز وعـدِ
فقال لها الحسین )علیه السلام) : یا أختاه کل الذی قُضیَ فهو کائن (1).
وقد التقى الإمام الحسین (علیه السلام) فی طریقه إلى الکوفة برجل یُکنّى "أبا هرم" ، فقال : یابن النبی ما الذی أخرجک من المدینة ؟!
فقال الإمام : "... . وَیحَک یا أبا هرم ! شَتَموا عِرضی فصَبرتُ ، وطلِبوا مالی فصبرتُ ، وطلبوا دمی فهربت! وأیمُ الله لیَقتلوننی ، ثمّ لیُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسیفاً قاطعاً ، ولیُسلّطنّ علیهم من یُذلّهم(2).
وصول الإمام الحسین إلى أرض کربلاء
وفی الطریق إلى الکوفة ، إلتقى الإمام الحسین (علیه السلام) بالحرّ بن یزید الریاحی ، وکان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زیاد فی ألف فارس ، وهو یرید أن یذهب بالإمام إلى ابن زیاد ، فلم یوافق الإمام الحسین على ذلک ، واستمرّ فی السیر حتى وصل إلى أرض کربلاء فی الیوم الثانی من شهر محرم سنة 61 للهجرة.
فلمّا نزل بها ، قال : ما یُقال لهذه الأرض ؟
فقالوا : کربلاء !
فقال الإمام : "اللهم إنّی أعوذُ بک من الکرب والبلاء" ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفک دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا . بهذا حدّثنی جدّی رسول الله ) صلى الله علیه وآله وسلم) قال السیّد ابن طاووس فی کتاب "الملهوف" (3) :
لمّا نزلوا بکربلاء جلس الإمام الحسین (علیه السلام) یُصلح سیفه ویقول :
یـا دهرُ أفٍ لک من خلیل مِن طـالبٍ وصاحبٍ قتیل وکـلّ حیّ سالکٌ سبیلـی کم لک بالإشراق و الأصیل و الدهـر لا یقنـعُ بالبَدیل ما أقربَ الوعد من الرحیلِ
وإنّما الأمر إلى الجلیلِ
فسمعت السیدة زینب بنت فاطمة (علیها السلام) ذلک ، فقالت : یا أخی هذا کلام مَن أیقَن بالقَتل !
فقال : نعم یا أختاه .
فقالت زینب : واثکلاه ! ینعى إلیّ الحسین نفسه .
وبکت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجیوب ، وجعلت أمّ کلثوم تنادی : وامحمّداه ! واعلیّاه ! وا أمّاه ! وا فاطمتاه ! واحَسَناه ! واحُسیناه ! واضیعتاه بعدک یا أبا عبد الله ... إلى آخره (4).
ورَوى الشیخ المفید فی کتاب (الإرشاد) هذا الخبر بکیفیّة أُخرى وهی :
قال علی بن الحسین زین العابدین (علیهما السلام) :
إنّی جالس فی تلک العشیّة التی قُتل أبی فی صبیحتها ، وعندی عمّتی زینب تُمرّضنی ، إذ اعتزل أبی فی خِباء له ، وعنده جوین مولى أبی ذرٍ الغفاری ، وهو یعالج سیفه ویُصلحه ، وأبی یقول :
یا دهـر أفّ لک من خلیل مِـن صاحب وطالبٍ قتیل و إنّمـا الأمـر إلى الجلل کم لک بالإشراق والأصیل والدهـر لا یقنـع بالبدیل وکلّ حـی سـالکٌ سبیلی
فأعادها مرّتین أو ثلاثاً ، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتنی العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السکوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل .
وأمّا عمتی : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهی إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِک نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ، حتى انتهت إلیه فقالت
واثکلاه ! لیتَ الموت أعدَمَنی الحیاة ، الیوم ماتت أُمّی فاطمة ، وأبی علی ، وأخی الحسن ، یا خلیفة الماضین وثِمال الباقین !
فنظر إلیها الإمام الحسین فقال لها : یا أُخیَّة ! لا یُذهِبنّ حِلمَک الشیطان .
وتَرقرَقَت عیناه بالدموع ، وقال : یا أُختاه ، " لو تُرک القَطا لغَفا ونامَ".
فقالت : یا ویلتاه ! أفتغتصب نفسک اغتصاباً ؟ فذاک أقرَحُ لقلبی ، وأشدّ على نفسی ، ثمّ لطمت وجهها ! وأهوَت إلى جیبِها فشقّته ، وخرّت مغشیّاً علیها .
فقام إلیها الإمام الحسین (علیه السلام) فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها : إیهاً یا أُختها ! إتّقی الله ، وتَعزّی بعزاء الله ، واعلمی أنّ أهل الأرض یموتون وأنّ أهل السماء لا یَبقون ، وأنّ کلّ شیء هالِک إلا وجه الله ، الذی خلق الخلق بقُدرته ، ویَبعث الخلق ویعیدهم وهو فردٌ وحده .
جدّی خیرٌ منی ، وأبی خیرٌ منّی ، وأُمّی خیرٌ منّی ، وأخی [الحسن] خیرٌ منّی ، ولی ولکلّ مسلم برسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) أُسوة .
فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : " یا أُختاه إنی أقسمتُ علیکِ ، فأبِرّی قَسَمی ، لا تَشُقّی عَلَیّ جَیباً ، ولا تَخمشی علیّ وجهاً ، ولا تَدعی علیّ بالویل والثُبور إذا أنا هلکتُ".
ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندی ، وخرج إلى أصحابه (5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ کتاب "نفس المهموم" للشیخ عباس القمی ، ص 179.
2 ـ الحدیث مرویّ عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) ، مذکور فی کتاب " أمالی الصدوق " ص 129 ، حدیث 1 ، وذکره الشیخ المجلسی فی " بحار الأنوار" ج 44 ص 310.
3 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ص 139.
4ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ص 139.
5 ـ الإرشاد للشیخ المفید ، ص 232 . وذکره الطبری ـ المتوفّى عام 310 هـ ـ فی تاریخه ج 5 ص 420